كل ما قدَّمت لنفسك من خير ستجده يوم القيامة يُبهجك أو يُحزِنك ، وينفعك أو يضرك ، ويشهد لك أو عليك ، فأي كنز لك تحب أن تراه؟! أي شيء ترغب أن يزيِّن صحيفتك؟! أي شهادة تريد أن تنبري دفاعا عنك يوم تكون في أمس الحاجة إلى من يقف إلى جوارك؟! ومن معاني الكنز : أنه يُجمع رويدا رويدا ، ثم يُحافظ عليه ، لا أن يُجمع بيد ويُبدَّد بالأخرى؟! ولا أن يهدم صاحبه ما سبق وأن بنى ، فأي عقل في هذا؟! ومن الحفاظ على الكنز الطاعاتي أن لا يُفسد برياء أو رؤية أو عُجب. ومن معاني الكنز كذلك أن يُخبَّأ عن أعين الناس فلا يُفشى سِرُّه وإلا سُرِق وزال. أخي .. الكنز .. الكنز : كل الناس يكنز ، فمنهم من يكنز ما تُكوى به جباههم وجنوبهم وظهورهم في نار جهنم ، ومنهم من يكنز ما تهوي به قلوبهم وعيونهم وأرواحهم إلى جنات عدن ، فاختر كنزك من اليوم : صلاة .. دعاء .. دعوة .. صدقة .. بر .. واجمعه يوما بعد يوم ، واحفظه وراعِه ونمِّه وكبِّره ، ولتجدنه يوم القيامة ساطعا أمام ناظريك كما شهد بذلك الحديث : " والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ". وهي كلها -كما ترى- كنوز دلَّك عليها رسول الله (ص) ، والمُنتَظر منك أن تلبي دعوته ، فتبدأ من الساعة حملة الاكتناز الإيماني الرائع بدلا من الاكتناز الشيطاني الضائع ، وكن كيف شئت ، فإنما تجني ما غرست ، واقتفى السَّريُّ السقطي خطى نبيه حين أوصى أنجب تلامذته وأحبهم إليه الجنيد فقال له : " اجعل خزانتك قبرك ، واحشُه من كل خير حتى إذا قدمت فرحت بما قدمت إليه من المعروف"
قال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده» 1. ليست الجنة درجة واحدة، وبالتالي ليس الثمن المدفوع فيها واحدا، فمشتري أدنى درجة في الجنة ليس كشاري أعلى الدرجات، وأعلى درجة هناك تستوجب أعلى بذل هنا، وقمة الأجر لديه تتطلب أسرع السير إليه، فأين بلغت في الجنة حتى الآن أخي الخاطب؟! وقد سبق وأن أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدد درجات الجنة ليُشعل نار التنافس بين المؤمنين أيهم يحوز أعلاها، فقال صلى الله عليه وسلم: « الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » 2. بل ونقل صورة تفصيلية ومشاهدة حقيقية لما رآه أهل الجنة بعد أن استقر لهم في الخلد المقام، فرأوا الدرجات الأعلى والمكانة الأرقى لمن سبقهم في دنياه فكوفئ في الجنة منتهاه. قال صلى الله عليه وسلم: « إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم » 3. لكن التمايز في الجنة ليس في الدرجات وحدها بل في كل شي ، ونأخذ مثلا لذلك : الشراب : فارق كبير بين المقربين وهم السابقين، وبين الأبرار أو أصحاب اليمين وهم المقتصدين ، فالمقربون يشربون بعيون الجنة صرفا محضا لا يخالطه شيء ، كما قال تعالى في سورة المطففين في شراب الأبرار : (وَمِزَاجُهُ ۥ مِن تَسۡنِيمٍ * عَيۡنً۬ا يَشۡرَبُ بِہَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ )[ المطففين : 27-28 ] ، وقال يشرب بها المقربون ولم يقل منها إشعارا بأن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها ، وعين التسنيم أعلى أشربة الجنة ، يشرب بها المقربون صرفا ، وتُمزج لأصحاب اليمين مزجا ، جزاء وفاقا. قال ابن القيم: « وهذا لأن الجزاء وفاق العمل ، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم ، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مُزِجَ لهم شرابهم ، فمن أخلص أُخلِص شرابه ، ومن مزج مُزِج شرابه » 4. لكن .. كيف نترجم هذا التنافس واقعا ملموسا؟! كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه، فيقال لها في ذلك فتقول: «إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد!! » 5. تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته، تبغي بذلك درجة أعلى في الجنة ومكافأة أكبر هناك، فأشق الصدقات هو أن تنفق مما تحب، وأشق الصلوات ما كان في جوف الليل بعد نوم وفي خلوة، وأشق الأعمال عموما ما انعدم فيه حظ النفس ورؤية الخلق، ولن يُعدم عاشق حيلة يصل بها إلى الحبيبة. اسم بهمتك نحو الجنة، ثم استعد لتحمل الآلام والمشاق في سبيلها، ويشهد لك بذلك الإمام ابن القيّم: «كلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل» 6. ([1]) حسن : رواه الدارقطني عن أنس وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وسمرةكما في صحيح الجامع رقم : 6006 ([2]) صحيح :رواهابن مردويه عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم : 3120 ([3])صحيح : رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد والترمذي عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم:2027، والغابر هو الذي تدلَّى للغروب وبعد عن العيون. قال الزمخشري : «والترائي : تفاعل من الرؤية ، يُقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا ، وتراءى لي الشيء ظهر لي حتى رأيته ، وتراءى القوم الهلال إذا رأوه بأجمعهم». ([4]) طريق الهجرتين ص301 ([5]) صفة الصفوة 4/46 ([6]) مفتاح دار السعادة 2/15
لا تيأس إن كان الشيطان قد استزلك، وتعلم من ذنبك، واستخدمه في بناء صرح إيمانك، فالإخفاق أساس النجاح، وربما كان الذنب سببا في العودة إلى الله وتصحيح المسيرة، مثلما حدث مع الكثيرين، ومنهم خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز الذي روى عنه ابن كثير أنه «ضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا بأمر الوليد له، وصُبَّ فوق رأسه قربة من ماء بارد في يوم شتاء بارد، وأقامه على باب المسجد يومها، فمات رحمه الله، وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بُشِّر بشيء من أمر الآخرة يقول: كيف وخبيب لي بالطريق!! ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أُثني عليه يقول: خبيب وما خبيب؟ إن نجوت منه فأنا بخير، وركبه الحزن والخوف من حينها، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك 1. فكان له من وراء هذا الذنب الخير الوفير وكان بمثابة القشة التي قصمت ظهر الشيطان والفتيل الذي أحرق كيده حتى صار خامس الخلفاء الراشدين، ووعى عمر الدرس فكان إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهية أن يعجل في أول غضبه 2. وهذا ما يجعلنا نقسِّم الذنوب إلى قسمين: عائقة وسائقة، فالذنوب العوائق هي التي تُقعِد صاحبها عن السير إلى الله بعد أن ألقته في بئر اليأس وجلد الذات، أما الذنوب السوائق فهي التي تُضاعف سير صاحبها إلى الله وتدفعه إلى استدراك الخطأ ومحاولة التعويض كما حدث مع الراشد العُمري. ([1])البداية والنهاية6/87 ([2]) تاريخ الخلفاء ص 201
فالمعصية الواحدة قد يغفرها الله لك كما يملك أن يُعذِّبك بها فاسمع: «يا مغرورًا بالأماني: لُعِن إبليس وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمر بها، وأُخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحُجب القاتل عنها (أي: الجنة) بعد أن رآها عيانًا بملء كف من دم، وأُمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل له، وأمر بإيساع الظهر سياطًا (أي: الجلد) بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر، وأبان عضوًا من أعضائه بثلاثة دراهم 1، فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه "وَلَا يَخَافُ عُقۡبَـٰهَا" [الشمس: 15]. دخلت امرأة النار في هِرَّة، وإن الرجل المتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» 2. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسيت أن الله آخرج أدمًــــــــــــا منها إلى الدنيا بذنب واحد وقد تنسى ذنبك ولكن الله لا ينسى!! نموت ونبــــلى غيـــر أنَّذنـــــــــــــوبنا إذا نحــــــن مِتـــنا لا تموت ولا تَبلى وإليك هذا الخبر الذي يبعثه لك أبو هريرة ليبعث- لا الخوف فحسب- بل الرعب في قلبك فتتوقى أشواكًا كانت تعلق بأثوابك من ذي قبل دون أن تلقي لها بالاً، وآن لك بعد قراءة هذه السطور أن تنتبه. عن أبي هريرة: فلما انصرفنا مع رسول الله إلى وادي القرى ونزلنا بها أصيلاً مع مغرب الشمس، ومع رسول الله غلام له أهداه له رفاعة بن زيد، فوالله إنه ليضع رحل رسول الله إذ أتاه سهم غرب (طائش) فأصابه فقتله. فقلنا: هنيئًا له الجنة. قال: «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا» 3. سبحان الله... هذا رجل رآه الناس من أهل الجنة، وأصبح من خدم رسول الله يراه حيث يقوم ويصوم ويعظ الناس، يصب له ماء الوضوء، ويتبرك بآثار طهوره، ولكن ذلك كله لم يشفع له ومعصية واحدة صغيرة أدت به إلى النار، ولو كانت شملة من غنيمة لا يؤبه لها. سمع رجل من أصحاب رسول الله هذا الحديث ورأى هذه الواقعة فقال: أصبت شراكين لنعلين لي (أي: من الغنائم)، فقال له النبي: «يُقدُّ (يقطع) لك مثلهما في النار»، ولما كلف الرسول أحد أصحابه بتقسيم الغنائم ولقي من التعب والحر الشديد ما جعله يعصب رأسه بعصابة من الغنائم يتقي بها الشمس، قال النبي له: «عصابة من النار عصبت بها رأسك»، وتوفي رجل من أشجع فلم يصلِّ عليه وقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله، فوُجِد في متاعه خرز لا يساوي درهمين». كلمات تقشعر لها الأبدان، وتهلع لها الأفئدة، ولهذا نوصيك ونقول: احذر معاصيك وتذكر أن أول الغيث قطرة، وإنما السيل اجتماع النقط، وما الكف إلا إصبع وإصبع، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وإليك هذه الموعظة البليغة التي نطق بها أبو الفرج ابن الجوزي: «غاب الهدهد عن سليمان ساعة فتواعده، فيا غائبًا عنا طول عمره.. أما تحذر غضبنا، خالف موسي الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات، فحلَّ عقد الوصل بكف "هَـٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِى وَبَيۡنِكَۚ"[الكهف: 78]، أما تخاف يا من لم يف لنا قط أن نقول في بعض زلاتك قَالَ "هَـٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِى وَبَيۡنِكَۚ" 4. ([1]) أي أن الله أمر بقطع يد السارق بثلاثة دراهم يسرقها. ([2]) الفوائد ص (83). ([3]) رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة كما في ص ج ص رقم (6942). ([4]) المدهش ص (490، 491).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire