samedi 5 août 2017

سهام المواعظ

كل ما قدَّمت لنفسك من خير ستجده يوم القيامة يُبهجك أو يُحزِنك ، وينفعك أو يضرك ، ويشهد لك أو عليك ، فأي كنز لك تحب أن تراه؟! أي شيء ترغب أن يزيِّن صحيفتك؟! أي شهادة تريد أن تنبري دفاعا عنك يوم تكون في أمس الحاجة إلى من يقف إلى جوارك؟! ومن معاني الكنز : أنه يُجمع رويدا رويدا ، ثم يُحافظ عليه ، لا أن يُجمع بيد ويُبدَّد بالأخرى؟! ولا أن يهدم صاحبه ما سبق وأن بنى ، فأي عقل في هذا؟! ومن الحفاظ على الكنز الطاعاتي أن لا يُفسد برياء أو رؤية أو عُجب. ومن معاني الكنز كذلك أن يُخبَّأ عن أعين الناس فلا يُفشى سِرُّه وإلا سُرِق وزال. أخي .. الكنز .. الكنز : كل الناس يكنز ، فمنهم من يكنز ما تُكوى به جباههم وجنوبهم وظهورهم في نار جهنم ، ومنهم من يكنز ما تهوي به قلوبهم وعيونهم وأرواحهم إلى جنات عدن ، فاختر كنزك من اليوم : صلاة .. دعاء .. دعوة .. صدقة .. بر .. واجمعه يوما بعد يوم ، واحفظه وراعِه ونمِّه وكبِّره ، ولتجدنه يوم القيامة ساطعا أمام ناظريك كما شهد بذلك الحديث : " والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ". وهي كلها -كما ترى- كنوز دلَّك عليها رسول الله (ص) ، والمُنتَظر منك أن تلبي دعوته ، فتبدأ من الساعة حملة الاكتناز الإيماني الرائع بدلا من الاكتناز الشيطاني الضائع ، وكن كيف شئت ، فإنما تجني ما غرست ، واقتفى السَّريُّ السقطي خطى نبيه حين أوصى أنجب تلامذته وأحبهم إليه الجنيد فقال له : " اجعل خزانتك قبرك ، واحشُه من كل خير حتى إذا قدمت فرحت بما قدمت إليه من المعروف"

قال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده» 1. ليست الجنة درجة واحدة، وبالتالي ليس الثمن المدفوع فيها واحدا، فمشتري أدنى درجة في الجنة ليس كشاري أعلى الدرجات، وأعلى درجة هناك تستوجب أعلى بذل هنا، وقمة الأجر لديه تتطلب أسرع السير إليه، فأين بلغت في الجنة حتى الآن أخي الخاطب؟! وقد سبق وأن أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدد درجات الجنة ليُشعل نار التنافس بين المؤمنين أيهم يحوز أعلاها، فقال صلى الله عليه وسلم: « الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » 2. بل ونقل صورة تفصيلية ومشاهدة حقيقية لما رآه أهل الجنة بعد أن استقر لهم في الخلد المقام، فرأوا الدرجات الأعلى والمكانة الأرقى لمن سبقهم في دنياه فكوفئ في الجنة منتهاه. قال صلى الله عليه وسلم: « إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم » 3. لكن التمايز في الجنة ليس في الدرجات وحدها بل في كل شي ، ونأخذ مثلا لذلك : الشراب : فارق كبير بين المقربين وهم السابقين، وبين الأبرار أو أصحاب اليمين وهم المقتصدين ، فالمقربون يشربون بعيون الجنة صرفا محضا لا يخالطه شيء ، كما قال تعالى في سورة المطففين في شراب الأبرار : (وَمِزَاجُهُ ۥ مِن تَسۡنِيمٍ * عَيۡنً۬ا يَشۡرَبُ بِہَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ )[ المطففين : 27-28 ] ، وقال يشرب بها المقربون ولم يقل منها إشعارا بأن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها ، وعين التسنيم أعلى أشربة الجنة ، يشرب بها المقربون صرفا ، وتُمزج لأصحاب اليمين مزجا ، جزاء وفاقا. قال ابن القيم: « وهذا لأن الجزاء وفاق العمل ، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم ، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مُزِجَ لهم شرابهم ، فمن أخلص أُخلِص شرابه ، ومن مزج مُزِج شرابه » 4. لكن .. كيف نترجم هذا التنافس واقعا ملموسا؟! كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه، فيقال لها في ذلك فتقول: «إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد!! » 5. تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته، تبغي بذلك درجة أعلى في الجنة ومكافأة أكبر هناك، فأشق الصدقات هو أن تنفق مما تحب، وأشق الصلوات ما كان في جوف الليل بعد نوم وفي خلوة، وأشق الأعمال عموما ما انعدم فيه حظ النفس ورؤية الخلق، ولن يُعدم عاشق حيلة يصل بها إلى الحبيبة. اسم بهمتك نحو الجنة، ثم استعد لتحمل الآلام والمشاق في سبيلها، ويشهد لك بذلك الإمام ابن القيّم: «كلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل» 6. ([1]) حسن : رواه الدارقطني عن أنس وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وسمرةكما في صحيح الجامع رقم : 6006 ([2]) صحيح :رواهابن مردويه عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم : 3120 ([3])صحيح : رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد والترمذي عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم:2027، والغابر هو الذي تدلَّى للغروب وبعد عن العيون. قال الزمخشري : «والترائي : تفاعل من الرؤية ، يُقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا ، وتراءى لي الشيء ظهر لي حتى رأيته ، وتراءى القوم الهلال إذا رأوه بأجمعهم». ([4]) طريق الهجرتين ص301 ([5]) صفة الصفوة 4/46 ([6]) مفتاح دار السعادة 2/15

لا تيأس إن كان الشيطان قد استزلك، وتعلم من ذنبك، واستخدمه في بناء صرح إيمانك، فالإخفاق أساس النجاح، وربما كان الذنب سببا في العودة إلى الله وتصحيح المسيرة، مثلما حدث مع الكثيرين، ومنهم خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز الذي روى عنه ابن كثير أنه «ضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا بأمر الوليد له، وصُبَّ فوق رأسه قربة من ماء بارد في يوم شتاء بارد، وأقامه على باب المسجد يومها، فمات رحمه الله، وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بُشِّر بشيء من أمر الآخرة يقول: كيف وخبيب لي بالطريق!! ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أُثني عليه يقول: خبيب وما خبيب؟ إن نجوت منه فأنا بخير، وركبه الحزن والخوف من حينها، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك 1. فكان له من وراء هذا الذنب الخير الوفير وكان بمثابة القشة التي قصمت ظهر الشيطان والفتيل الذي أحرق كيده حتى صار خامس الخلفاء الراشدين، ووعى عمر الدرس فكان إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهية أن يعجل في أول غضبه 2. وهذا ما يجعلنا نقسِّم الذنوب إلى قسمين: عائقة وسائقة، فالذنوب العوائق هي التي تُقعِد صاحبها عن السير إلى الله بعد أن ألقته في بئر اليأس وجلد الذات، أما الذنوب السوائق فهي التي تُضاعف سير صاحبها إلى الله وتدفعه إلى استدراك الخطأ ومحاولة التعويض كما حدث مع الراشد العُمري. ([1])البداية والنهاية6/87 ([2]) تاريخ الخلفاء ص 201

فالمعصية الواحدة قد يغفرها الله لك كما يملك أن يُعذِّبك بها فاسمع: «يا مغرورًا بالأماني: لُعِن إبليس وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمر بها، وأُخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحُجب القاتل عنها (أي: الجنة) بعد أن رآها عيانًا بملء كف من دم، وأُمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل له، وأمر بإيساع الظهر سياطًا (أي: الجلد) بكلمة قذف أو بقطرة من مسكر، وأبان عضوًا من أعضائه بثلاثة دراهم 1، فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه "وَلَا يَخَافُ عُقۡبَـٰهَا" [الشمس: 15]. دخلت امرأة النار في هِرَّة، وإن الرجل المتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» 2. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسيت أن الله آخرج أدمًــــــــــــا منها إلى الدنيا بذنب واحد وقد تنسى ذنبك ولكن الله لا ينسى!! نموت ونبــــلى غيـــر أنَّذنـــــــــــــوبنا إذا نحــــــن مِتـــنا لا تموت ولا تَبلى وإليك هذا الخبر الذي يبعثه لك أبو هريرة ليبعث- لا الخوف فحسب- بل الرعب في قلبك فتتوقى أشواكًا كانت تعلق بأثوابك من ذي قبل دون أن تلقي لها بالاً، وآن لك بعد قراءة هذه السطور أن تنتبه. عن أبي هريرة: فلما انصرفنا مع رسول الله إلى وادي القرى ونزلنا بها أصيلاً مع مغرب الشمس، ومع رسول الله غلام له أهداه له رفاعة بن زيد، فوالله إنه ليضع رحل رسول الله إذ أتاه سهم غرب (طائش) فأصابه فقتله. فقلنا: هنيئًا له الجنة. قال: «كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا» 3. سبحان الله... هذا رجل رآه الناس من أهل الجنة، وأصبح من خدم رسول الله يراه حيث يقوم ويصوم ويعظ الناس، يصب له ماء الوضوء، ويتبرك بآثار طهوره، ولكن ذلك كله لم يشفع له ومعصية واحدة صغيرة أدت به إلى النار، ولو كانت شملة من غنيمة لا يؤبه لها. سمع رجل من أصحاب رسول الله هذا الحديث ورأى هذه الواقعة فقال: أصبت شراكين لنعلين لي (أي: من الغنائم)، فقال له النبي: «يُقدُّ (يقطع) لك مثلهما في النار»، ولما كلف الرسول أحد أصحابه بتقسيم الغنائم ولقي من التعب والحر الشديد ما جعله يعصب رأسه بعصابة من الغنائم يتقي بها الشمس، قال النبي له: «عصابة من النار عصبت بها رأسك»، وتوفي رجل من أشجع فلم يصلِّ عليه وقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله، فوُجِد في متاعه خرز لا يساوي درهمين». كلمات تقشعر لها الأبدان، وتهلع لها الأفئدة، ولهذا نوصيك ونقول: احذر معاصيك وتذكر أن أول الغيث قطرة، وإنما السيل اجتماع النقط، وما الكف إلا إصبع وإصبع، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وإليك هذه الموعظة البليغة التي نطق بها أبو الفرج ابن الجوزي: «غاب الهدهد عن سليمان ساعة فتواعده، فيا غائبًا عنا طول عمره.. أما تحذر غضبنا، خالف موسي الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات، فحلَّ عقد الوصل بكف "هَـٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِى وَبَيۡنِكَ‌ۚ"[الكهف: 78]، أما تخاف يا من لم يف لنا قط أن نقول في بعض زلاتك قَالَ "هَـٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِى وَبَيۡنِكَ‌ۚ" 4. ([1]) أي أن الله أمر بقطع يد السارق بثلاثة دراهم يسرقها. ([2]) الفوائد ص (83). ([3]) رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة كما في ص ج ص رقم (6942). ([4]) المدهش ص (490، 491).

قال تعالى: ( إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٲلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ‌ۚ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَ‌ۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقًّ۬ا فِى ٱلتَّوۡرَٮٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِ‌ۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ‌ۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعۡتُم بِهِۦ‌ۚ وَذَٲلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)[ التوبة: 111 ] . ما أجمل هذه الصورة البديعة والتمثيل الرائع، صورة العقد الذي عقده رب العزة جل جلاله بنفسه، وجعل ثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسجل كلماته بحروف من نور في الكتب السماوية الثلاثة، وما أشرفه من صك وتوثيق، ووعدا ألزم الله به نفسه وجعله حقا عليه مبالغة في الفضل منه والكرم وإيناسا لعباده ولطفا بهم، ولا أحد أوفى من صاحب هذا الوعد، فوعد الرب الغائب أقوى من بضاعة كل عبيده الحاضرة. لكن.. ماذا تساوي نفوسنا المعيبة -وإن طهرت- حتى يشتريها الله منا بكل هذا الثمن، لذا قال الحسن البصري وقتادة: « بايعهم والله فأغلى ثمنهم » 1. وهو ما دفع محمد بن الحنفية أن يحثك على تزكية نفسك وتطييبها بالعمل الصالح والطاعات والقربات مبرِّرا ذلك بقوله: « إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها » 2. أثـامـِن بالنفس النفيسةِ ربَّهــــا ...... ولَيسَ لها في الخلق كُلِّهمُ ثَمَنْ بها تُملك الأخرى فإنْ أنا بِعتُها ...... بشيءٍ من الدُّنيا فذاك هو الغَبَنْ لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي بدنيا أُصيبها ...... لقد ذَهَبَتْ نفسي وقد ذهب الثَّمنْ أنت إذن -يا أخي- غال جدا عند الله، يحبك ويريد أن يكرمك غاية الإكرام، لذا اشتراك بجنة عرضها السماوات والأرض، جنة لا تُقدَّر بمال، فأنت والله أغلى عنده من الدنيا بأسرها، وقد مرَّ بك: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها». فكيف بعتهذه النفس الثمينة بشهوة تنقضي في لحظة؟! وبلذة لا تبقى سوى ساعة؟! وهبها بقيت أياما أو أعواما فماذا تساوي بجوار لذة الخلد؟! وبعتها لمن؟! لأعدى أعدائك: شيطانك!! هو ما دفع ابن القيم أن يتعجَّب منك في إحدى فوائده قائلا: « إنما أبعدنا ابليس إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك، فوا عجبا كيف صالحته وتركتنا!! » 3. أخـــي.. اعرف إذن هذه الحقيقة الساطعة: أنت لا تملك نفسك، ولا يحق لك التصرف فيها دون إذن المالك، يصرِّفها حيث يشاء؛ يقول لك هذا حلال فتقبل، وهذا حرام فتُعرِض، افعل كذا ولا تفعل كذا، تكلم بهذا ولا تنطق بهذا، امش إلى هنا ولا تقترب من هناك، بل لو قدَّمك للذبح عن طريق جهاد أو كلمة حق في مواجهة طاغية فعلى أي شيء تعترض؟! وهو إنما يتصرف في ما اشتراه منك وبعته له، وأعطاك في المقابل الجنة، أفترجع في بيعتك؟! أم أنك لم تبع وزهدت في الجنة من الأساس؟! وإذا بعت.. أيحسن لمن باع شيئا أن يغضب على المشتري إذا تصرَّف فيه أو يتغير قلبه تجاهه إذا أنفقه؟ وماذا لنا فينا حتى نتكلم!! إنها البيعة المعلَّقة في عنق كل مسلم عرف أم لم يعرف، ولا بد من الوفاء، وهو قول شَمِر بن عطية: «ما من مسلم إلا ولله عز وجل في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ) 4. إن الله تعالى وحده هو المستحق أن يُطاع ويُحب ويُعبد لذاته حتى لو لم يثب عباده شيئا لا أن يمنحهم الجنة لأنه هو الذي خلق وهدى ورزق كما أنشد بعضهم: هب البعث لم تأتنــا رسله وجاحمة النار لم تضــــرم أليس من الواجب المستـ حق حياء العباد من المنعم لكنه تعالى كافأ عباده وشوَّقهم وأرسل الآيات تلو الآيات تهيب بالسامعين التشمير للجنة والرحيل إليها، وبعد كل هذا تُعِرضون!! سلِّــم واستلــــــم!! إخوتاه..البائع لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم ما باعه، فكذلك لا يستحق العبدُ الجنة إلا بعد تسليم النَّفس والمال إلى المشتري، فمن قعد أو فرَّط فغيرُ مستحقٍ للجنة، فهل سلَّمت ما عليك لتستلم ما اشتهيت؟! وهل من باع نفسه وعلى استعداد أن يقدِّمها للذبح إرضاء لربه لا يقوى على ما هو أهون من الذبح بكثير؟! من غضِّ بصر أو الاستيقاظ فجرا لصلاة أو الصبر عن لقمة حرام تُعرض عليه رشوة أو شبهة؟! وإذا لم يقو على هذا «الأسهل» فهل مثله باع فعلا؟! أم أنه يطمع في نيل أغلى سلعة بأبخس ثمن!! وصدق القائل: إذا اعتاد الفتى خـــوض المنايا فأهـــــــوَنُ ما يمُرُّ به الوُحولُ ومثل هذه المواجهة المتكررة للنفس الأمارة بالسوء تورث العبد ولابد واحدا من أجمل الأخلاق وهو خلق «الحياء» الذي يعصم من كثير من الرذائل ويدفع لإحراز أسمى الفضائل. لكن.. ماذا بعد إبرام البيعة؟! الجواب: قول الله تعالى: (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ‌ۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمً۬ا) [ الفتح: 10 ] أخـــــــي.. كلما لمست من نفسك فتورا أو انشغالا بالعاجلة أو إيثارا للفانية اسأل نفسك: هل بعتُ؟! هل اشتريتُ الجنة حقا وبعت نفسي ومالي في سبيلها؟! وما الدليل على ذلك؟! وأي عقل في التأخر عن صفقة كهذه؟! أو الانشغال عنها بغيرها؟! من يهب نفسه اليوم لربه وقد اشتراه، ومن باع فليبادر، ولا يجزع مما يحاذر. يقول سيد قطب في الظلال: « إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة، فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!! حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرما منه وفضلا وسماحة - أن الله سبحانه قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله.. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يُحدِّد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخيَّر، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة ». صحابة باعوا سلفا!! ولكي تستشعِر معنى هذه البيعة حقا اقرأ في من نزلت آية البيعة (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ) : نزلت في بيعة العقبة الكبرى في العام الثالث عشر من البعثة، وهو العام الذي أتى فيه الأنصار يربو عددهم على السبعين يبايعون الرسول (ص)بيعة التضحية والفداء، فقام منهم عبد الله بن رواحة قائلا لرسول الله (ص): اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قال: ربح البيع.. لا نقيل ولا نستقيل. وفي تفصيل أكثر لما حدث: قام أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال: رويدا يا أهل يثرب!! إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضَّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عضِّ السيوف إذا مسَّتكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة؛ فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا جميعا: أمط يدك ياأسعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقاموا إليه يبايعونه رجلا رجلا، يأخذ عليهم شرطه ويعطيهم على ذلك الجنة. واعجبا!!قوم أيقنوا بالجنة ولما يمض على إسلامهم سوى برهة قصيرة من الزمن، فمنهم من أسلم منذ يوم واحد، ومنهم من أسلم من يومين، ومنهم من أسلم من شهر أو شهرين، وأقدمهم إسلامًا من أسلم منذ سنتين!! وبرغم ذلك ومع أن الجنة غيب لم يروه، فهم يبذلون في سبيلها أغلى ما يملكون: النفس والمال ويتعرضون لأخطر ما يكون، ونحن نسمع عن الجنة مذ وعينا طوال عمرنا وما دفعنا نفس الثمن، فهل أيقنت نفوسنا هذا اليقين؟! وهل نحن على استعداد لنفس البذل؟! ([1])تفسير ابن كثير 2/515 ([2])حلية الأولياء 3/177 ، وهو محمد بن علي بن أبي طالب ، ويكنى أبا القاسم ، وسبب ذلك ما صحَّ في سنن أبي داود : قال علي رحمه الله : يا رسول الله!! أرأيت إن ولد لي ولد بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال : نعم. ([3]) الفوائد 1/77 ([4])تفسير ابن كثير 2/515

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire